معنى عدم احتمال حديث أهل البيت (عليهم السلام)

جواب : السيد أبو اَلحسن علي الموسوي

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم – أيّدك الله – أنّ المراد من «لا يحتمله» في روايات «حديثنا صعبٌ مستصعبٌ» أو «أمرنا صعبٌ مستصعبٌ» الواردة في حديث أئمّة الهدى (عليه السلام) تفسيران:

الأوّل: أنْ يكون المقصود من قوله (عليه السلام): «لا يحتمله»، أي لا يطيقه ولا يستوعبه ولا يدركه إلّا مَن بلغ مرتبةً عاليةً من الإيمان والتقوى والكمال الروحيّ، ويشير لهذا المعنى بعض الأخبار، نذكر بعضًا منها:

1- ما رواه الصفّار بسنده عن أبي بصير، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): “حديثنا صعبٌ مستصعبٌ، لا يؤمن به إلّا مَلَكٌ مقرّب، أو نبيٌّ مرسل، أو عبدٌ امتحن الله قلبه للإيمان، فما عرفت قلوبكم فخذوه، وما أنكرت فردّوه إلينا» [بصائر الدرجات ج١ ص٤١].

2- ما رواه الصفّار بسنده عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: سمعتُه يقول: “إنّ حديثنا صعبٌ مستصعبٌ، خشنٌ مخشوشٌ، فانبذوا إلى الناس نبذًا، فمن عرف فزيدوه، ومن أنكر فامسكوا، لا يحتمله إلّا ثلاث: مَلَكٌ مقرّبٌ، أو نبيٌّ مرسلٌ، أو عبدٌ مؤمنٌ امتحن الله قلبه للإيمان» [بصائر الدرجات ج١ ص٤١].

3- ما رواه الصفّار بسنده عن عمرو بن شمر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: “إنّ حديثنا صعبٌ مستصعبٌ، أجردُ ذكوانُ وعرٌ شريفٌ كريمٌ، فإذا سمعتم منه شيئًا ولانت له قلوبكم فاحتملوه، واحمدوا الله عليه، وإن لم تحتملوه ولم تطيقوه فردّوه إلى الإمام العالم من آل محمدٍ صلى الله عليه وآله، فإنّما الشقيّ الهالك الذي يقول: والله ما كان هذا، ثم قال: يا جابر، إنّ الإنكار هو الكفر بالله العظيم” [بصائر الدرجات ج١ ص٤٢].

والتفسير الآخر: أنْ يكون المقصود من قوله (عليه السلام): “لا يحتمله”، أي لا يستطيع كتمانه، وحفظه، وعدم إذاعته، ويشير لهذا المعنى بعض الأخبار:

منها: ما رواه الكلينيّ في المكاتبة المروية إلى أبي الحسن الهادي (عليه السلام): جعلت فداك، ما معنى قول الصادق (عليه السلام): حديثنا لا يحتمله مَلَكٌ مقرّب، ولا نبيٌّ مرسل، ولا مؤمنٌ امتحن الله قلبه للإيمان؟

فجاء الجواب: إنّما معنى قول الصادق (عليه السلام) – أي: لا يحتمله ملك ولا نبي ولا مؤمن – أنّ الملك لا يحتمله حتى يخرجه إلى ملكٍ غيره، والنبيّ لا يحتمله حتى يخرجه إلى نبيٍّ غيره، والمؤمن لا يحتمله حتى يخرجه إلى مؤمنٍ غيره، فهذا معنى قول جدّي (عليه السلام)» [الكافي ج١ ص٤٠٢].

ومنها: ما رواه الكلينيّ أيضًا بسنده عن عبد الأعلى، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنّه ليس من احتمال أمرنا التصديق له والقبول فقط، من احتمال أمرنا ستره وصيانته من غير أهله، فأقرئهم السلام، وقل لهم: رحم الله عبدًا اجترّ مودّة الناس إلى نفسه، حدّثوهم بما يعرفون، واستروا عنهم ما ينكرون، ثم قال: والله ما الناصب لنا حربًا بأشدّ علينا مؤونةً من الناطق علينا بما نكره..» [الكافي ج٢ ص٢٢٣].

ولهذا قُتل المعلّى بن خُنَيس، لمّا لم يستطع حفظ السر. فعن حفص بن شبيب، قال: دخلتُ على أبي عبد الله (عليه السلام) أيّام قُتل المعلّى بن خُنيس مولاه، فقال لي: يا حفص، حدّثت المعلّى بأشياء فأذاعها، فابتُلي بالحديد، إنّي قلت له: إنّ لنا حديثًا، من حفظه علينا حفظه الله، وحفظ عليه دينه ودنياه، ومن أذاعه علينا سلبه الله دينه ودنياه، يا معلّى، إنّه من كتم الصعب من حديثنا جعله الله نورًا بين عينيه، ورزقه العزّ في الناس، ومن أذاع العبّ من حديثنا لم يمت حتى يعضّه السلاح» [الغيبة للنعماني ص٣٨].

وكان الأئمة (عليهم السلام) يحضّون شيعتهم على الكتمان، لما يترتّب على الإذاعة من مفاسد عظيمة، حتى ورد عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) أنّه قال: «وددتُ والله أنّي افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض لحم ساعدي: النَّزَق وقلّة الكتمان» [الكافي ج٢ ص٢٢٢، الخصال ج١ ص٤٤].

فإنّ معنى (النَّزَق) هو الطيش والخفة عند الغضب، و(الكتمان) هو إخفاء وستر أحاديث الأئمة (عليهم السلام) وأسرارهم عمّن لا يحتمله.

قال العلّامة المازندرانيُّ: (لمّا كانت التقيّة شديدةً في عصرهم (عليهم السلام)، أمروا شيعتهم بكتمان أسرارهم، وإمامتهم، وأحاديثهم، وأحكامهم المختصّة بمذهبهم عن المعاندين وغيرهم ممّن لا يعرفونه، ليُحفظوا من بطشهم، وقد بالغ (عليه السلام) في ذلك ورغّب فيه، حتى إنّه عدّ ضررهم أشدّ من قطع لحم الساعد، مع أنّه يُقتل غالبًا) [شرح أصول الكافي ج٩ ص١٢٧].

قال العلّامة المجلسيّ – تعليقًا على روايةٍ تنهى عن الإذاعة تفسيرًا لقوله: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ} –: (تدلّ الآية على ذمّ إذاعة ما في إفشائه مفسدة، والغرض التحذير عن إفشاء أسرار الأئمة (عليهم السلام) عند المخالفين، فيصير مفسدة وضررًا على الأئمة عليهم السلام وعلى المؤمنين، ويمكن شمولها لإفشاء بعض غوامض العلوم التي لا تدركها عقول عامّة الخلق) [بحار الأنوار ج٧٢ ص٨٤].

نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أوّلًا وآخرًا.

إرسال التعليق